التجربة الشعرية عند مصطفى الفطيمي هي تجربة تخضع لمنطق البناء المتجدد للاصول الشعرية من خلال الحفاظ على الرؤية الفنية التي تحكم عملية التشكيل الذوقي الذي يستلهم مقوماته من مكونات بنائية يتقن احكامها الشاعر وكذلك من خلال مرجعيات ثقافية منها يؤسس شاعرنا متنه الشعري مع الحفاظ على الثوابت الشعرية التي تؤهل النص أن يكون نصا ماتعا ،وكاننا بالشاعر ينتج مشروعا شعريا ينطلق من الذات المتاملة والمتخيلة ،ومن العالم الخارجي الذي يتاثر بمتغيراته ويتفاعل معها ويصوغ أسئلة واقعية تتحول إلى أجوبة تمتد عبر مساحات الصور الشعرية ،فنكون أمام تمفصلات عدة في النص الاصابعي (اعتبر الفطيمي شاعر الأصابع سابين ذلك فيما بعد) :
*تمفصل بين النسق الشعري والسياق الاجتماعي والثقافي
*تمفصل بين الذات الحاملة للقلق وبين العالم مصدر القلق.
*تمفصل بين النسق الثابت والمتحرك في نفس الوقت، الثابت معجميا والمتحرك شعريا وبين المتجاوز زمنيا ودلاليا.
*تمفصل بين الثقافي والفكري والذي يجعل من المثقف يتموقف من مجموعة من القضايا (الموقف الشعري )وبين الشعري في بعده التخييلي حيث تبنى الرؤية الشعرية وتخلق المتعة القرائية ،التي تسعى إلى ملء فراغات النص والامساك بالمعاني المتوارية خلف التشكيل الشعري العنيد الذي لا يسمح لتعرية النص بسهولة والكشف عن مكنوناته.
هي تمفصلات كثيرة ساهمت في بناء هاته العوالم الشعرية والتي أردت أن اقترب من بعض جوانبها من خلال انساق التصادي والتجاوز ،وقبل أن اخوض في الموضوع لابد من تفسير أولي للنسق ،وللتصادي وللتجاوز ،بمعنى أقدم ماقصدية هاته المفاهيم وفق ما اروم إليه من هاته المقاربة.
#النسق هو عبارة عن مجموعة من المكونات سواء اكانت لغوية او فكرية أو ثقافية او سياسية وغيرها ،تحافظ على توليفتها وتتفاعل فيما بينها وتكون خاضعة للتحول حسب الزمن والسياق.
#التصادي ،هو الصدى الذي يتركه الصوت عندما نصيح ،والتصادي هنا هو تلك الأصوات الشعرية التي تتردد عبر النص الأول والنص الثاني ،اي هو معجم يكون في النص الأول اصواتا وفي النص الثاني اصداء لتلك الاصوات .
#التجاوز بمعنى الإنتقال إلى مستوى اخر دون التخلي عن الأول لكن يكون في المرحلة الثانية تجديد وانفلات عن المرحلة الأولى ،وساوضح هاته المفاهيم من خلال قراءتي للديوان الثاني لاخي مصطفى الفطيمي الثابت والمتحور.
1/ * انساق التصادي.*
هنا التصادي بين معجم الديوانين ،،الديوانةالاول كأني اغزل موجا،،والثاني الثابت والمتحور،، والذي جعلني أقف عند هذآ النوع من التصادي هو التزام الفطيمي بنفس المعجم ولو بدرجات متفاوتة،كاني بالشاعر يؤمن بان النسق اللغوي قادر أن يتغير دلالاته وفق السياقات الشعرية والمتغيرات النفسية وهذا ما سنلاحظه في ديوان الثابت والمتحور ،،،حيث يباغثنا الشاعر بلفظة السبابة وهي عنصر من الاصابع في قصيدته كورونا:
ها أنا افرك عيني هاتين
افركهما هكذا،بالسبابة وحدها
كي أرى كل شيء
فرك العينين بالسبابة وهي جزء من الاصابع كي تجلو الرؤية عنده وتتضح الصورة ،صورة الواقع الذي ينطلق منه الشاعر ،،
،كما سيوظف الابهام في بعض القصائد الأخرى ،،اذن هو وفي للاصابع لذا سميته شاعر الأصابع ،هاته الأصابع التي ستتحول حتما إلى رمز فاعل في النصوص يحيا من داخل السياق ويتنفس من الشعري الذي يتواجد فيه ،،،
لنلاحظ هذآ التصادي المعجمي الذي كان لفطيمي وفيا له باستثناء معجم لفظ واحد تم التركيز عليها في هذآ الديوان ولم يكن في الديوان الأول.وساوضح السبب ،وهي وقفة إحصائية تساعدنا على فهم آلية اشتغال هذآ الشاعر داخل نصوصه الشعرية:
1/الحجر (19)
2/اليد (17)
3/الاصابع (13)
4/الموت (13)
5/الشجر(10)
6/العاصفة(6)
7/البحر (5)
8/الفراشات (2)
بالتامل جيدا في هذآ المعجم الذي المتصادي مع معجم الديوان الأول نكتشف بعض الملاحظات الغريبة والتي يجب تفسيرها حتى نفهم الخلفية الشعرية لذى الشاعر.
اولا.. هيمنة لفظة الحجر والذي لم نجدها في الديوان الأول.
ثانيا عدد لفظة اليد يأتي في الترتيب بعد لفظة الحجر ،وهذا طبيعي أن يحضر في لاوعي الشاعر الحجر يحتاج إلى اليد ،
ثالثاً عدد الأصابع يساوي لفظة الموت ،اذا كانت الأصابع في الديوان الأول وسيلة غزل وهي طويلة ،الان ترافق الموت ،وهي تنذر بشيء سيء :
_نخسر اصابعنا التي كنا نقضمها
_لااحتاج للاصابع التي اقضمها في المقاهي
_ليقضم أصابعه الحجرية
_وانت باصابعك المعضوضة كتبت الأسماء مرتين
وغيرها من الجمل الشعرية التي تبين ان الجملة التي قالها في الديوان الأول في أول قصيدة وهي أنا بدون أصابع ،،لكنه سيصنعها على مسافة الديوان ،والتي ستصبح في آخر الديوان طويلة ،الان هاته الأصابع تمسكك بالموت وتنكسر مع واقع الوباء الذي ينخر الاجساد ويقلق النفوس وستصبح اصابع متحورة .
ثالثا.العاصفة استعملها ثلاث مرات في الديوان الأول الآن نلاحظ انه استعملها ست مرات وفي ذلك إشارة إلى الحالة النفسية المتوترة جراء الواقع الكورونياوي الذي عاشه وكان جزءاً من مخلفاته.
رابعا البحر قل تواجده في هذآ الديوان وكان قريباً في عدده مع العاصفة ،وهذا طبيعي ،لان الشاعر انتقل من المستوى المائي كرمز الحياة إلى المستوى الحجري كرمز للثبات واللاحركة ،استجابة للمعطيات الجديدة التي سيعيشها وضمن المتغيرات الثقافية والنفسية التي ستوجه رؤيته الشعرية.
يكفينا الآن هذآ الرصد الأولي في عملية التصادي هاته، وقد اشرت أن هذا التصادي ليس كليا ،فهو يلتزم بنفس المعجم ويضيف عليه معجمااخر خدمة للبناء الشعري الجديد ،ولهذا اعتبر الفطيمي الشاعر الذي لا يكرر نفسه ،فهو يجدد في تجربته ،وهذا ما ساقف عنده في النقطة الثانية
2/انساق التجاوز.
التصادي ليس آليا أو ميكانيكيا أي بمجرد تكرار يقوم به الشاعر ،ولا نقول ان الفطيمي هو حبيس لهذا المعجم ولا يمكن أن يبدع من خارجه ،،يجب ان نعلم أن الصعوبة في الكتابة الشعرية هو أن تجعل اللفظة حربائية تأخذ اللون والدلالة من داخل السياق الذي استعملت فيه ،فمثلا الأصابع ،قد بينت أن الفطيمي لم يبق على صورتها الأولى بل اعطانا أصابع أخرى تأخذ صفاتها من الحركية الشعرية الجديدة ،ويمكن أن يوظفها في ديوانه الثالث بأشكال أخرى جد مخالفة ،لانه ملتزم بمشروعه الشعري الذي يبنيه والذي يميزه كشاعر.
اذان هناك انساقا شعرية فيها نلامس نوعا من التجاوز عن اللحظة الشعرية الأولى وما ساهم في هذآ التجاوز هو المعطيات التالية.
# الزمن التاريخي مختلف ويختلف معه الظرف الاجتماعي الذي عاشه العالم ومن ضمنه المغرب ألا وهو وباء كورونا.
#الزمن النفسي مغاير فالشاعر عاش تجربتين عصيبتين جراء هذا الوباء لقد أصيب به مرتين فكانت الثانية اشدها وطأة واقواها ألما.
#الزمن الشعر يفرض التجديد سواء في الشكل أو في المحتوى ،مادام الشاعر يجدد في ثقافته الفكرية والشعرية فحتما سيقدم لنا تجربة شعرية متميزة مخالفة بعض الشيء عن الأولى.
فالتجاوز ظاهرة في الصناعة الشعرية عند مصطفى الفطيمي ،واستحضاره للنص السابق أثناء كتابته للنص اللاحق في ترابط دقيق، بها يروم إلى ماقصدية شعرية تجعل القارئ يتابع الصورة الشعرية ويربط فيما بينها. ساوضح هذآ الوعي الشعري الذي يستحضره مصطفى الفطيمي في ديوانه الثابت والمتحور.
في قصيدة حروب صغيرة في الرأس يقول:
كان أبي يفرك أصابعه ويعض عليها في المقهى
يأتي في قصيدة كتابة عروضية ويقول:
تذكر اصابعك التي كنت تعضها في المقاهي الرخيصة
نلاحظ هذا التوظيف الذي يشبه التوظيف الأول كأننا نقرأ قصيدة واحدة من خلال قصيدتين ،فالصورة الشعرية تتبعنا أثناء القراءة وتجعلنا نتساءل عن السبب وهذا ما اسميه الإحالة السياقية ،والتي تبين أهمية الكتابة الشعرية الواعية برسم حدود المسافات الشعرية.
لنقف عند كلمة النفخ والتي لها شحنة دينية قال تعالى “ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا”(سورة التحريم)
لقد استعملها الشاعر في متواليات نصية وبدلالات مختلفة.
*ق، شفط الذهون
وأنا غير ما مر نفخت بشفتيها
*ق،بالابيض والاسود
نفخت العاصفة في كل اتجاه
*خيانة أولى
حين اتوقف عن النفخ
أضع حجرا على حجر
*ق،خيانة ثانية
ارى الاصدقاء في المقاهي
ينفخون بلا فائدة
ق،قفزة في الهواء
أنت نفخت في الرأس
وبحركة غريبة
نفخت في وجهي
النفخ عادة يكون ايجابيا ،ننفخ لتشتغل النار ،وننفخ للتخفيف من الم الجرح ،بصفة عامة النفخ يكون في الأصل لاستعادة الحياة ،هنا الأمر مخالف تم التجاوز عن هذا التوظيف ،النفخ من العاصمة ،يتوقفةالنفخ ،. ينفخون بلافائدة ،التوقف النفخ مرة أخرى ،النفخ بحركة غريبة.
لذا النفخ يتحور ويصبح نفخا يسبب الالم واللاجدوى.
ننتقل الى الصورة وكيف لاينسى الشاعر توظيفها في نصوص أخرى ،نقرا له في قصيدة سؤال:
*حين تركت وجهي ،وتنهدت ،ثم بلا فائدة عدت ابحث عن وجهي في العتمات.
صورة الوجه تختفي هنا لان العتمات حجبت الرؤية.
في قصيدة بالابيض والاسود نقرا:
ا ختفى المسمار ،
والجدار القديم،
وصورتي بالابيض والصورة.
هنا اختفاء الصورة مع الجدار القديم والمسمار.
فنراه يعود في نصه الفوارق السبعة ،يستحضر الصورة من جديد هاته الصورة التي كانت في الجدار القديم يقول الشاعر:
في الصورة الاولى المدقوقة على حائط قديم
اقف منتصبا
….. في الصورة المدقوقة بمسمار
لا تظهر وسامتي
إذن الصورة تختفي رغم أنه يقف منتصبا وهذا ما يجعلنا ندرك الحالة النفسية التي توجه الكتابة الشعرية عند الفطيمي ،الشيء الذي يفرض علي وانا اعاين هذا التجاوزات (التجاوز بالمعنى الإيجابي أي الانطلاق من لحظة شعرية معينة إلى لحظة شعرية اخرى مختلفة ومتطورة) في الرؤية الشعرية أن أقف عند لفظة العين التي هي اساس الرؤية البصرية ومنها يتشكل المشهد الشعري .
ق،كورونيا
ها انا افرك عيني هاتين
…….
كي أرى كل شيء
الاستعداد للرؤية ولكن لابد من فرك العينين لإزالة كل ما يعيق هاته الرؤية.
ق،حين نسعل وندس عاصفة في الرماد
انا
كنت أرى بعينيه،
هو بعينين من زجاج
احتواء الآخر والنظر بعينيه اللتين من زجاج،بمعنى هما قابلتان للانكسار.
ق،ضعف في الحساب
بعيني هاتين أرى السماء قفصا لعشر قبرات
لا حظوا الرؤية هنا أصبحت ضيقة السماء أصبحت قفصا وهي التي كانت فضاء حرا لجميع القبرات،ما بقي فيها الا عشر قبرات
ق، الفوارق السبعة
عيناي غائرتان
بينما اغمضهما في الصورة الاخرى من كثرة الرقص في الحانات
عيناي في الأصل من فصوص وعقيق
مفارقة عجيبة،الاولى ،عينان غائرتان ويغمضهما ،الثانية هما من فصوص وعقيق،الاولى غياب الرؤية وفي الثانية مصدر جمال.
،ق،في الحين يصير قلبي ورقة
يسبقني مقص الرقيب
الى كل شيء:
إلى عينيك
هناك حارس يحول دون النفاذ إلى عينيها يحمل مقصا ويقطع الصور التي ستراها عينيها،
هناك توظيفات أخرى سامر عليها لضيق المجال ،ما يفهمني هنا هو أنه حتى العين لم تستطع التقاط الأشياء وتقريب الصور،لان الموت جاثية على النفوس ،والخوف حاضر بقوة.
ارجع إلى المعجم الذي سجل حضوره بقوة في الديوان،انه الحجر وله عدة استعمالات،منها نرمي به ،نبني به وله عدة استعمالات أخرى لنقف عند توظيفاته في الديوان.
ق،كورونيا
تضع تيجانا من قش
وحجر
ق،اصابع متحورة
ويجمع كل الحجر في سلة قصب
ق،حين نسعل وندس عاصفة في الرماد
ها نحن في أيام الحجر
ق، الفوارق السبعة
واصابعي من حجر
ق،النهر والشجرة
وعلى يدي التي صارت حجرا
وفي قصيدة رمية حرة استعمل الحجر ست مرات،(ارمي بهذا الحجر،رميت بحجرة،ها أنت ترمي بالحجر،ترمي بحجر تلو حجر،صرنا_ انا وان _ نرمي بالحجر)
جاء الحجر في الاستعمال الأول دالا على توصيف الأصابع والايام واليد وفي الثانية هو وسيلة للرمي ،بمعنى أن الحجر لا وظيفة حقيقية له حتى في حالة الرمي لا ينتظر منه رد فعل في الموضع الذي يستقبل الرمي.
هي انساق تتكيف مع السياقات الدلالية والتداولية وتنتج في الاخير متنا شعريا يسائل المواقف الإنسانية واللحظات التاريخية بلغة مكثفة وبصياغات شعرية يستدعي من خلالها الشاعر عدة فنية متقنة مثل التناص ،(سورة يوسف) والرمزية ،والانزياحات ،. ،والتوازيات المختلفة وغيرها من الألوان الفنية الرائعة والتي اعطتنا هاته اللوحات التشكيلية الشعرية المتميزة.
هو ثابت ومتحول ،ثابث في أصوله الشعرية ومتحول في كيفية الصياغة وطرق انتاجها ،هو ثابت في عمق الإنسان ،ثابت في الوجود ،ثابت في الطبيعة ومتحور في ذاته فيروس خطير حور فيروسا أخطر منه فكان لقاح الشعر الوسيلة الانجع لتحويل المتحور إلى متحول ايجابي.