شعرية الألم بين التأسيس والتحسيس

اليومية المغربية7 سبتمبر 2023آخر تحديث :
شعرية الألم بين التأسيس والتحسيس
شاعر تونسي : شكري مسعي

1/ تأسيس المتعة وشعرية الامتاع.

كل قراءة هي اما مجاورة للنص متصالحة معه ،او متصادمة معه تحاول أن تملأ فراغاته محاولة الكشف عن الاستمتاع المختفي وراء هندسية بنائه ،،الاولى مداهنة عابرة مسالك اللغة في بنائها الأول دون البحث عن اللغة الثانية التي ترشح متعة ،الثانية متفاعلة تهدم بناء النص وتخترق حرمته كي تداعب عفته وتكشف هويته ،،وانا في اختياري اروم إلى المسلك الثاني الذي اعتبره مدخلا اساسيا للوصول إلى الاستمتاع الذي هو نتيجة حتمية للعملية الامتاع الذي تركه النص اثرا دالا على غواية القراءة ،،،
السؤال المطروح لماذا قدم لي هذا النص صكوك العرفان كي يدفعني دون سبق اصرار ،الى الحفر عن مستويات التحسيس والتي هي من شروط فعل الامتاع ؟الجواب هو عبارة عن توضيح لبعض المفاهيم التي امنت بتوظيفها في سياقات أخرى ،والتي يتوفر عليها هذا النص العروضي للشاعر العزيز الأخ شكري مسعي.
في نظري لا يمكن لأي قارئ أن يساهم في إنتاج نص ثان مكشوف وكاشف دون المرور من القراءة الأولى المباغثة ،هذا المرور يكون فاحصا لعملية التأسيس والتي يقوم بها الشاعر مستحضرا معه عدة الامتاع ،لانه في غياب عناصر المتعة في النص والتي تفرز مقدمات الادهاش ،لايمكن للقارئ ان يتفاعل مع النص تفاعلا ايجابيا ،لقد سبق لي أن ميزت بين ثلاثة مستويات من القراءة ،،،
1/قراءة منفعلة ،،تنتهي بانتهاء القراءة الأولى ،لانها تفتقد لشروط الاقراء العلمية والمنهجية او لأن للنص يفتقد لمكونات المتعة.
2/قراءة متفاعلة ،،فيها يحاور النص القارئ المفترض وهذا الأخير يحاوره بمستوى عدته المعرفية والذوقية.
3/قراءة فاعلة أي مشاركة في إنتاج سبل الاستمتاع والتي هي ماقصادية الشاعر صاحب النص.
كما هو مشار إليه سابقاً أنا اخترت المستوى الثاني التفاعلي كي اترك للنص مساحات أخرى للقراءة .
إذن عملية التأسيس مهمة ،وهي تشكل قلقا كبيرا لدى الشاعر لانها تحسم في مصيره وتبني هويته ، فيعمل الشاعر على خلق عالمه الشعري معتمدا على مرجعيات عدة منها المعرفي الثقافي ،منها الاجتماعي الانساني منها الشعري العام وأخيرا منها البلاغي والعروضي والنحوي واللغوي.
هذآ التأسيس «اي تأسيس المتعة » هو مقدمة لتحقيق التحسيس عن طريق الامتاع الذي هو فعل ينتقل من النص الى القارئ ومن القارئ إلى النص العملية الأولى هي هدم لصرحه المتعوي والثانية هي بناء لقواعد الاستمتاع ،فالتحسيس هو ثقافة ذوقية ادهاشية تحرك فاعلية الذوق الشعري وتفتح آفاق القراءة.
أردت من هاته المقدمة أن أبين مستويات القراءة وكيف أن النص الشعري يمكنه أن ينفلت من قبضة الشاعر ويزيغ عن طريق المعنى ويوهم الواقع أنه انعكاس ٱلي له ،اكثر من ذلك فهو يجعل من القارئ الحصيف عنصرا بلاغيا حاضرا في تشكيل الصورة وبناء المتعة.

2/. العنونة واحالاتها الدلالية

أخي شكري مسعي ،هو شاعر عروضي (يكتب القصيدة البحورية)وهو دائم التجديد والتجدد في أدواته الشعرية ،وهذا النص ينطبق عليه ما قلناه سابقاً ،لذا جعلته محرابي لصلاة الامتاع ،ورغبتي في الكشف عن زوايا المتعة ما استطعت إلى ذلك سبيلا ،وساقف أولا عند العنوان لأنه يعتبر عتبة نصية أساسية تجذبك إلى مداخل النص ،كما أكد على ذلك منظر العتبات الباحث الفرنسي جيرار جينيت ،
قصيدة في بحر البسيط على مستوى البناء الايقاعي الخارجي لكنها مركبة ومعقدة على مستوى الايقاع الداخلي ،جعل من الخبن مطية زحافه ليجعل من القافية (وهي الحرف المتحرك بعد الحرف الثاني الساكن)تنساب بسهولة تختال بين هرمية اللغة لتزيد متعة في الجرس الموسيقي ،،،
العنوان يتكون من تركيب بسيط:
اللام حرف جر ،متصل بضمير المتكلم ليكونا شبه جملة هي خبر متقدم ،،يليها تركيب إضافي:ثورة زائد ياء المتكلم وهي إضافة معنوية تفيد التعريف ،،وكما نلاحظ أن هذا التركيب ليس فيه انزياح ،واضح المعنى على مستوى البنية السطحية لكن كلما اقتربنا من البنية العميقة الا وظهرت خبايا دلالية لها ارتباط قوي بما سياتي في النص.
لي ثورتي ،،،هنا حضور ياء المتكلم للاقرار بملكية وتملكية الشيء ،لم يقل الشاعر لي ثورة ،ليتركها نكرة بل قال ثورتي لتكون لها هوية واساس وجودي مرتبطان بالذات ولهما أثر خارجي في المجتمع ،،الثورة هي رد فعل ايحابي على شيء غير مقبول ،وعلى وضع مرفوض ،هي رغبة في التخلص من حالة ذاتية أو موضوعية ،،،،
لي ثورتي بمعنى لي شكل ثورة خاص بي ،هي توصيف لحالة رفض ستكون جراء وضع قائم سنلاحظه عندما ندخل إلى النصف لنكتشف اسراره،فلي ثورتي لاتعني ان الشاعر ثائر او على اهبة الثورة ،لكنه يؤكد على انه من حقه أن تكون له ثورة ،لكن شكل هاته الثورة غير واضح ،ربما النص سيجيب على هاته التخمينات التي وضعها الشاعر وجعلنا في حيرة من امر القراءة.

3/ لعبة ضمير المتكلم وتمفصلات الدلالة ،بين الذات المتلظية والذات الحالمة.

شاعرنا شكري مسعي لايكتب من فراغ ولا يرصص اللغة اعتباطا خارج الرؤية والموقف الشعريين ،بل ينجز صناعة شعرية يتدخل فيها البعد المعرفي والشعري اللذين راكمهما الشاعر، سنقوم بعملية مسحية للصيغة الصرفية التي جاء فيها ضمير المتكلم مرتبطا بالكلمة سواء اكانت اسما او فعلا:
بعضي _اجنحتي _تذبحني _لغتييجرحني _عصاي_ظلي _تمدحني_ لغتي _يكتبني_يكبحنيجنوني _تظلمني _ظلاميتنصحني _يسكنني _ثورتي _تشرحني_لي جنونتذكيني _تلفحني _يفهمني_يفضحني .
ساحاول أن أضع الأسماء لوحدها والافعال كذلك لنتبين ذكاء الشاعر في هذا الاختيار المحكم والمعبر في نفس الوقت:
بعضي____تذبحني
اجنحتي__يجرحني
لغتي ___تمدحني
عصاي ___يكتبني
ظلي__يكتبني
لغتي (الصدى)__يكبحني
جنوني__تظلمني
ظلامي__تنصحني
* __يسكنني
*.ت__تشرحني
*ت__تذكيني
*ت__تلفحني
*ي__يفهمني
*ي__يفضحني
نلاحظ في هذا الجرد أن الشاعر يفتح مغالق العنوان إذا ما اعدنا ترتيب هاته الصيغ التركيبية وقراناها دلاليا ،،،الاسم كما نعلم ثابت وهو لصيق بالذات ،يحاول وصف حالتها ،بعضي وليس كلي ،هي ذات مركبة وليست بسيطة (بالمفهوم الفلسفي المركب يكون ناقصا والبسيط يكون كاملا)ذات لم تقو على حمل بقاياها ،،
الأجنحة وسيلة انعتاق ،
لكن هاته الأجنحة اكتفت بحمل هذا البعض الذي يريد أن يتخلص من النقصان ويبحث عن الاكتمال،،
لغتي تكررت مرتين المرة الأولى فيها اجراس المحنة ،وفي الثانية صدى لغته العمياء ،اذن اللغة لاتستطيع فعل أي شيء لانه في لغته الأولى هرم وناب الصمت جرحه ،وفي لغته الثانية هي صدى لغة عمياء تكتبه.
العصا حضورها ينبئنا بفعل إيجابي سيقع خاصة عندما اقتربنا من وصف الشاعر ،وعرفنا سبب تنبيهنا أن له ثورة ،لكن يذكرنا انه ليس نبيا الذي قال في سورة طه “”هاته عصاي اتوكأ عليها واهش بها على غنمي ،ولي فيه مٱرب أخرى ،،وليست العصا التي القاها موسى ،،فهي تلقف ما ياكفون (سورة الأعراف)فعصا الشاعر هنا حين يمشط ظله ليست عصا نبي بل هي عصا إنسان مغلوب على امره.
فياتي الظل والجنون والظلام لوصف حالات يعيشها الشاعر الذي هو في الأخير الإنسان الذي يتكلم باسمه الشاعر ،
هو وضع ثابت ثبات الإسم بوصفه المؤلم ومايزيد الوضع تازما هو الافعال في حركيتها الذائبة ،افعال تتجه من الخارج إلى الذات فتزيدها الما ،وهذا ما تدل عليها الأفعال الموظفة والتي جاءت بكثرة في القصيدة في مقابل الاسماء ،الذبح،الجرح لايكتبه الكبح الظلم إستحالة النصح الموطن في غبار الوقت يسكنه اللغة العذراء تشرحه ،وغيرها من الأفعال المتوالية والمعبرة فعلاً عن حالة نفسية عصيبة يعيشها الشاعر الذي يسكنه الإنسان.
ضمير المتكلم اما هو واصف للذات معبر عن حالتها او فعل خارجي يزيد في الم الذات المتلظية.ضمير يتحرك دلالية بحركة الحالة النفسية وبشكل الوضع الذي عاشه وعاينه الشاعر فحوله إلى بركان شعري خالقا متعة القلق وشعرية الألم التي عبرها عنها الشاعر بامتياز في هذا النص الذي اعتبره شخصيا وثيقة شعرية تنبه إلى خطورة الوضع القائم وتنذر بأزمة الإنسان المغلوب على أمره والذي يبحث عن كوة خلاص ينجو بها بحلمه الذي لم يبدأه بعد.

4/الرؤية الفنية وتأسيس المتعة الشعرية.

الشاعر شكري مسعي حافظ على طقوسية القصيدة العربية من شكل هندسي ،ومن الاليات البحورية التي وضعها الخليل الفراهيدي ،لكن رؤية الشاعر الفنية لم تبق محصورة في هذا النظام بل اعتراها نوع من التجديد سواء على مستوى المحتوى المرتبط بالواقع والمتفاعل معه أو على مستوى الادوات الفنية التي وظفها الشاعر كي تؤسس المتعة داخل النص وبالتالي تحقق الامتاع الذي يستفز القارئ ويجعله يبحث عن الاستمتاع الشعري.
فعلا الأخ شكري مسعي بفطنته الشعرية وبادراكه المعرفي ،روض هذا النص وفتح آفاق المتعة على الحساسيات الفنية الحداثية ،فنجده يختار اللغة الطيعة البعيدةعن كل تعقيد معجمي ،كما اشتغل على تراكيب تتناسب مع الجمل الشعرية حيث وظف الانزياح الذي هو من أساسيات القصيدة الحديثة سواء النثرية أو قصيدة التفعيلة ،كي يرسم الصورة الشعرية المناسبة للمعنى الذي يريد أن يروم إليه ،اقدم أمثلة من نصه كي يكون الحكم موضوعيا ومنصفا.
*مد كان بعضي رفيقا فوق اجنحتي– هنا دهشة المعنى واستحالة الامساك بالماقصدية المتوارية خلف سديمية التركيب الخارج عن المألوف والذي لا يمكن فك طلاسيمه الا بالعودة إلى النصف الذي يكشف سره ،،الشاعر ليس له أجنحة ،،ولايمكن أن يحمل بعضه ،واي بعض يقصد ؟وكيف يكون هذا البعض رفيقا فوق الأجنحة ؟الرفيق هو المصاحب لك لكن أن يكون رفيقا فوق الأجنحة فهذا لعمري نوع من العبث الجميل الذي يعطينا صورة شعرية في غاية الروعة.
*ذي الأصوات تذبحني –_—ايعقل أن الأصوات تذبح ،الفعل تذبح أخرج المعنى من مالوفيته إلى مساحة اللامعقول ،،الاصوات تقلق ،تؤلم لان فيها صخب ،لكن عندما تذبح ،،هذا تعبير مجازي يفتح آفاق التأويل ،ويرقي الذوق الشعري ،لان المتعة ليست في النص نفسه وفي لغته المألوفة ،بل في نص اخر ينقلنا من الاعتيادي إلى صدمة التلقي ،ويتركنا في حيرة من امر الفهم السليم المنفلت كلما دققنا في الجمل الشعرية المصاغة بهذا الشكل.
*ناب الصمت يجرحني –_—هل للصمت ناب ؟وكيف يجرأ الصمت على أن يجرح ،؟هنا رغبة الشاعر في تانيب الكلام الذي غيبه الواقع المرير ،الى درجة أن الصمت اصبح مخيفا ومدميا .
*هذي عصاي وذا ظلي امشطه –_—هناك مفارقة عجيبة بين وضعين او مشهدين ،يشير إلى العصا ،،،كرمز للفكاك ،،،ويشير إلى الظل الذي يمشطه ،،السؤال كيف يمشط الظل ؟دائما نزعة الغرابة تحضر في السياق الشعري ،تمشيط الظل لخلق الجمال والظل هو نتيجة للشمس التي خجلت من الظهور والعصا دالة على الرغبة في الازالة وفي التهديد.
*يامن يهش ظلامي –_—نلاحظ أنه استعمل العصا وقد لاحظنا تناصها مع قصص القرآن الكريم ،وهنا استحضار آخر وضمني لقصة موسى ،من خلال فعل اهش ،،والتي هي مرتبطة بالعصا ،،هي عاصاي اتوكأ عليها واهش بها على غنمي ،،،واهش هنا ليس المقصود بها افزاع الغنم ،بل تحريك الأعشاب كي تظهر للغنم وتاكلها ،وهش الظلام هنا هو إزالته كي يظهر النور ،وقد حافظ الشاعر على نفس المعنى.
*إني الذبيح ولون الماء يفضحني–_—لاحظ معي عودة صفة الذبح التي رايناها في فعل الصمت الذي يذبح ،وهنا إشارة إلى وعي الشاعر بما يكتب والتزامه بنسقية جمله ،فهو الذبيح ،،،هل هو استلهام من قصة اسماعيل الذي قدم نفسه إلى إبراهيم الذي راى رؤيا بأن الله يأمره بذبح إبنه اسماعيل ؟نترك القارئ اللبيب أن يبحث عن عناصر التلاقي التناصي ،،فهناك تضحية والشاعر كذلك يريد أن يقدم نفسه كتضحية استجابة لرؤيا الإنسان المقهور والمغلوب على أمره..في المستوى الثاني من التركيب يقول الماء يفضحه ،لان الماء يجلو كل شيء هو مطهر واصل الحياة.
انا فقط وقفت عند الجمل الشعرية إلتي ابدع فيها الشاعر وكانني اقرا قصيدة حداثية وهي كذلك ،ان اعدنا كتابتها بشكل الاسطر الشعرية لا أحد ينتبه على أنها قصيدة بحورية ،الا القارئ الذي يدرك ويعلم الايقاعات العروضية.
الشاعر شكري مسعي من الشعراء الذين يساهمون في عملية تجديد القصيدة العروضية فعو بحسه الشعري والمعرفي يبني لنفسه محاربه الخاص البعيد عن ضجة شعراء الوهم ،اقول له في الأخير ،هنيئا لنا بك شاعرا مجدداوهنيئا للقصيد العروضية او البحورية بك لانك تعيد لها اعتبارها وتضفي عليها رونقها.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق