إصدار جديد للكاتب الروائي عبد الكريم عباسي بعنوان “عودة تشارلز” بقلم الأستاذ حسن بوسلام

اليومية المغربية11 أكتوبر 2025آخر تحديث :
إصدار جديد للكاتب الروائي عبد الكريم عباسي بعنوان “عودة تشارلز” بقلم الأستاذ حسن بوسلام
هو نسق سردي متكامل، يبني مشروعه من رؤية فنية منسجمة ومنظمة لمسار روائي يشهد نقلات نوعية، يحكي هذا المسار مشاهد مرتبطة بنفسية الكاتب وبثقافته وبمرجعيته الفكرية والأدبية، المتوازنة والمتوازية مع الخط التصاعدي للكتابة الروائية، بدءا من رواية المصيدة في جزأيها، إلى رواية ملاذ الوهم والتيه، إلى روايتي رياح المتوسط ورياح الخطيئة، ليسافر بنا الكاتب إلى البرتغال بحكاية تسائل التاريخ وتضع القارئ في حيرة البحث عن الهويات الثقافية التي تتفاعل فيما بينها، حيث ولَد لنا هذا المخاض رواية “ملحمة روسيو”، ملحمة حقيقية تشابكت فيها خيوط السرد وتداخلت وفق بوليفونية (من منظور باخثين) تحفاظ على الايقاع السردي للرواية وتنسج علاقات تدافع بين النص وقارئه في غياب تام لسلطة الكاتب وتوجيهاته، لأنه كما قال بارت النص يولد لحظة قراءته، وأن القارئ هو من يمنح النص معناه.
لتكون عودة حقيقية أنجبتها الكتابات السابقة، من خلال تناسل أنساق روائية يحكمها منطق التجديد، فكان المولود عبر مخاض عسير، رواية جديدة للكاتب عبد الكريم عباسي، من رحم انجذاب الفكر إلى المطارحة الفكرية، وإلى القلق الفني الذي أعطانا رواية عودة تشارلز التي صدرت عن دار النشر سليكي إخوان بطنجة سنة 2025، ذات الحجم القصير بثلاثة فصول وتسعة عشر بابا.
هي رواية جديدة في شكل بنائها، وفي  آلية حكيها، تجمع بين القصة في بعدها التخييلي والتي تجعل من المشهد في كل جزئياته مدخلا أساسيا للمتعة الروائية، وبين سردية المعرفة التي تفتح أمام القارئ العالم نوافذ المساءلة الفكرية لمجموعة من الأطروحات العلمية والفلسفية، فالمزاوجة بين سردية المشاهد، وسردية المعرفة في بعدها الوثائقي والبحثي، جعلت الرواية في موضع اختبار حقيقي حول مدى إمكانية مساهمة المشهد التخييلي في كتابة قصة أخرى مماثلة للأولى ومخالفة لها في نفس الوقت، بمعنى آخر كيف يمكن للقارئ أن يعيش مع هاته المشاهد ويتعايش مع ما تطرحه من صور مفارقة لسياق الحكي وبعيدة عن النسق العام الذي يشتغل عليه الكاتب والذي يمثل رؤيته الفكرية في الكتابة، هنا يتمثل الإبداع ،وندرك الجهد الذي قام به الكاتب في إنشاء شكل هندسي متقن لمعمار روائي في غاية الاندهاش، يفرض على القارئ أن يشارك فيه، وهذه هي خطة الكاتب في عمله هذا، لأنه ابتعد عن الشكل الكلاسيكي في بناء الأحداث، وعوضه بتصوير المشاهد ليترك للقارئ إمكانية اقتحامها والمساهمة في إعادة تشكيلها.
إن عملية تسريد المشاهد، لتخدم المسار التصويري هي عملية معقدة، وتتطلب مهارة كبيرة. إذا رجعنا إلى الرواية، سنلاحظ خطها السردي الذي لا يحكي قصة بل يصورها، ولا يبني أحداثا وإنما يشكل لوحات فنية، كل لوحة تخدم الأخرى، وهنا تكمن الغرابة في قولي هذا، ولكي أوضح كلامي سأستحضر هاته المشاهد دونما الوقوف عند جزئياتها، وهاته دراسة أخرى سأقف عندها في مناسبة لاحقة.
* صوت الكاتب ——– مشهد حوار رامبو بطل الرواية مع حمان حول ما فعله حمان من سرقة الشاة وذبحها، ومشاركة رامبو في الأكل معه.
وحديث رامبو عن سبب تواجده في الأطلس ومهمته في كهوف الجبال.
*صوت رامبو ——–استعادة حياته في الكلية، وما وقع له من مشاكل سياسية وعاطفية أودت به إلى الحمق، ونقله إلى أحد الأضرحة حيث سيصف الأوضاع هناك.
*صوت الكاتب ——–إنتاج السرد المعرفي، بالوقوف عند نظرية النشوء والارتقاء، عند إثارته للنقاش الفكري والفلسفي والعقدي حول أصل الأنواع، بين إخوان الصفا، والجاحظ وغيرهم (المرجعية البحثية للكاتب، وهي مرجعية أخذت منه الوقت الوافر بالمقارنة مع كتابة الرواية)
*صوت الحلم ——-الحلم يبني هو الآخر مشاهده، ميمون سيتناول العشاء مع حمان وسيدخنان الكيف وينامان، هنا سيترك حلمه يروي لنا قصته والتي هي فعلا قصة تشارلز داروين الذي سيشارك في رحلة علمية مع ثلة من العلماء ورجال الدين، عبر سفينة البيجل، للسفر خمس سنوات إلى جزر الكالاباكوس في أمريكا الجنوبية للوقوف عند بعض الحيوانات هناك والنظر من خلالها على صدق النظرية أو زيفها. داروين سيطلب من ميمون أن يشاركه هاته الرحلة (هنا إبداع الكاتب واستغلال قصة واقعية لإنتاج قصة متخيلة من إبداعه) سيقبل ميمون بعد تردد، وسنتابع هذا الحلم الذي سيروي لنا مشهدا آخر، مشهد حمان الذي يحلم وهو ينزل إلى الكهف، فتداهمه القردة للانتقام منه على فعلته التي ارتكبها (سرقة الشاة وذبحها). يعود الحلم كي يقدم لنا صورة من الثقافة الأنتروبولوجية لشعب الفويجو القديم، الذي يعيش في الجزيرة المعوزلة، حيث سيتم تصوير المشاهد الدرامية بأدق التفاصيل، خاصة عندما سيضعون ميمون في قفص ويعلقونه في قمة الشجرة لأنه قتل ابن زعيم القبيل.
لا أريد الوقوف عن التفاصيل، لأنها فعلا هي التي تعطي للمشهد مصداقيته، سأترك القارئ يكتشف ذلك، أنا فقط أردت أن أبين أن الرواية هي عبارة عن مسار سردي، يبدأ من بالبسيط إلى المعقد، من القصة في بعدها التخيلي إلى الفكرة في بعدها الفلسفي، وأنت تقرأ صور المشاهد تبحث عن الحدث الناظم للرواية تجد نفسك جزءاً من هاته المشاهد تفكر في رمزيتها، وفي أبعادها الفكرية والفلسفية، وتعيد طرح السؤال من جديد، هل فعلا ما أخذناه عن داروين بأن الانسان أصله قرد؟ لعمري هذا ما أخفاه علينا الكاتب في لعبته السردية الملتوية، وتركنا ننتقل من لحظة سردية مشهدية إلى أخرى نقوم من خلالها بعملية الربط الفني لمجريات الصور (لا أقول الأحداث) ونجمع عناصرها في لوحة روائية واحدة.
عودة تشارلز، رواية مخطط لها باحكام، تخضع لصنعة الكتابة التي تخلخل المألوف السردي عند القارئ، لأنها تفرض قارئا يقظا مدركا بالأبعاد المشهدية في أنساق سردية مختلفة ومتنوعة، مجهزا برؤية نقدية دقيقة تمكنه من استغوار المشاهد واستنباط المعاني، هنا نتفق مع الدكتور عبد الله الغذامي حينما أكد أن نص القارئ يختلف عن نص المؤلف من خلال عمليات اللذة والإدراك والاستنباط والتأويل فلكل منها رؤية مختلفة عن الأخرى في كيفية تأويل النص، فإذا كان للمؤلف معنى واحدا، فلا يمكن  أن نسلم أن للقارئ معنى واحدا، لأنه كما يقول هذا الناقد هناك مؤلف واحد لكن هناك قراء كثر.
اعتبر شخصيا هذه الرواية قفزة نوعية في المنظومة السردية للكاتب، حيث إنها تجديد في القالب الفني وفي الرؤية، تحول بيِّن في نمط الكتابة، وإن كان الكاتب والروائي عبد الكريم عباسي يحافظ على لغته التي تقدم نفسها طيعة مسالمة، فإن البناء السردي والحبكة الروائية تتطلبان جهدا إقرائيا كبيرا لفك شفرات المشاهد وللاقتراب من المعاني الهاربة وراء الصور الروائية.
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق